مقدمة
تتناول هذه الدراسة جانباً من السيرة الذاتية للشيخ فتح الله السلوادي (1923-2000)، وتتركز بالأساس حول حياته بمصر في إبّان دراسته الجامعية في جامعة الأزهر في القاهرة في الأعوام ما بين (1937- 1946)، وتسعى عن طريق رصد ما سطَّرته ذاكرته حول تلك المدة إلى تسليط الضوء على الواقع الثقافي والفكري، الذي نمت في ظله النخبة الفكرية الفلسطينية ذات المرجعية الإسلامية في النصف الأول من القرن العشرين، ودور الأزهر في تشكيل هذه النخبة. وتعتمد الدراسة في مادتها الأساسية على ما ورد في مخطوطة سطّرها الشيخ فتح الله السلوادي قبل رحيله بسنوات قليلة، بعنوان (رجال لقيتهم).
والمخطوطة على درجة عالية من الأهمية؛ لرصدها أوضاع الطلبة الأزهريين من الفلسطينيين والشاميين، وطبيعة الحياة الثقافية والتعليمية التي عايشوها في مصر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي، كما أنَّها تسجِّل أحداثاً ووقائع تاريخية حدثت في مصر في المرحلة نفسها، وجرت فصولها في أحضان الفكر والأدب ومراكز الثقافة المصرية كالجامعات، لا سيما الأزهر، وتضيف جديداً في سير أعلام ومشاهير مصريين وشاميين، حفظت ذاكرة الشيخ فتح الله السلوادي بعضاً من يومياتهم مما ارتبط بتجربته الشخصية.
الشيخ فتح الله السلوادي ... سيرة حياة
ولد فتح الله حسن محمد السلوادي في مدينة حيفا عام 1923، على إحدى تلال جبل الكرمل، والده حسن محمد عواد، فلاح فلسطيني من قرية سلواد، عرف برقة مشاعره وسرعة تأثره، وقد كان مغرماً بالربابة واليرغول، تنهال الدموع من عينيه عندما يبدأ بالنفخ فيهما، وأمّه عائشة خالد عوض من قرية سلواد أيضاً، وقد عُرف عنها ارتجالها الزجل الشعبي وتغنّيها به في الأعراس. وتعود تسمية الشيخ فتح الله بهذا الاسم تيمناً بفتح الله استيتية صديق العائلة في حيفا.
انتقل والداه إلى العيش في حيفا في النصف الأول من القرن العشرين، حيث عمل والده بائعاً متجولاً، ثمَّ اشتغل في نقل الماء إلى الأحياء الحيفاوية، وعمل أيضاً عاملاً في البلدية. وقد تركت الحياة في حيفا أثراً كبيراً في نفس الطفل فتح الله، وظلت ذكريات طفولته فيها ماثلة بين ناظريه، إذ درس فيها مدة أربعة أعوام في مدرستَي السباعي والإرشاد الإسلامي، وكان يداوم على سماع خطب الشيخ عز الدين القسّام، ودروس الشيخ صالح الحوراني، ثمَّ انتقل إلى الدراسة في المدرسة الأميرية في سلواد، حيث أنهى فيها الصف الرابع، وقد عرف عنه نبوغه في التحصيل الدراسي وولعه بالمطالعة وحفظ الشعر.
التحق بالأزهر في شهر نيسان من سنة 1937، بصحبة طالبين هما الشيخ جمعة السلوادي والشيخ جبر العين يبرودي، وقد بقي في الأزهر تسعة أعوام، نال في السنة الأولى شهادة الأهلية، وفي السنة الثانية نال شهادة العالمية، وبعد أربعة أعوام نال شهادة العالية من كلية اللغة العربية، ثم نال شهادة أخرى من قسم التربية.
عاد الشيخ فتح الله السلوادي إلى فلسطين في سنة 1945، والتحق بسلك التدريس في المدارس الثانوية، فدرَّس في مدارس الرملة الثانوية في مدينة الرملة، وفي المدرستَين، الرشيدية والعمرية في القدس، وفي مدرسة رام الله الثانوية في مدينة رام الله، ومدرسة سلواد الثانوية في بلدة سلواد، إلى أن تقاعد سنة 1982. وعمل الشيخ أيضاً مقدماً للبرامج في إذاعة عمّان منذ أواخر خمسينيات القرن الماضي، وخطيباً في مساجد محافظة رام الله والبيرة منذ سنة 1967، ثمَّ خطيباً في المسجد الأقصى منذ سنة 1988، كما شغل منصب الإفتاء في محافظة رام الله والبيرة منذ سنة 1995 حتى وفاته في 4/6/2000.
يُقدَّم الشيخ فتح الله السلوادي في الساحة الأدبية والثقافية الفلسطينية على أنَّه شاعر الوطنيات والحكمة والمناسبات لا سيما الدينية منها، إذ بدأ بنحت الشعر وهو في الرابعة عشرة، وقد أهَّلته موهبته الشعرية، وعلاقته بالعديد من الشعراء والأدباء والصحفيين المصريين، لنشر أولى قصائده في المجلات المصرية كالأنصار القاهرية ومنبر الشرق والأهرام وغيرهن. ثمّ طوّر قدراته الشعريّة بعد عودته إلى فلسطين، فاستمر في نظْم الشعر، ونشر قصائده في الصحف الفلسطينية كالجهاد والدفاع وفلسطين والفجر والقدس، وقد صدر له ديوانان مطبوعان، هما ديوان الخواطر الصادر سنة 1990، وديوان خواطر في ظلال المسجد الأقصى الصادر في العام 1999.
والشيخ فتح الله السلوادي كاتب مثابر، اعتاد نشر مقالاته بانتظام في الصحف الفلسطينية طوال أكثر من نصف قرن من الزمان، عالج فيها مختلف القضايا الدينية والسياسية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية، إضافة إلى عضويته في هيئة التحرير في المجلات الدينية الفلسطينية، مثل هدى الإسلام والإسراء، وقد ربطته علاقة ودّ وصداقة مع كبار الشعراء والأدباء والكتَّاب الفلسطينيين، وله العديد من المؤلفات المخطوطة تجاوزت 51 مخطوطة، وهي في مختلف أنواع الكتابة الإبداعية كالشعر والقصة والمسرحية والخاطرة والمقالة. ولابد من الإشارة أخيراً إلى أن الشيخ فتح الله السلوادي كان قد حفظ في حياته القرآن الكريم، وعدة دواوين من الشعر، كديوان المتنبي وأبي فراس الحمداني وأبي القاسم الشابّي، وكان مولعاً باقتناء الكتب، فكان في مكتبته الخاصة ما يزيد على 9525 كتاباً ما بين مجلد وغيره، وما يزيد على 1000 مجلة ثقافية.
الشيخ فتح الله السلوادي في طريقه إلى الأزهر
كان الأزهر حتى بدايات القرن العشرين ملاذ طلبة العلم من الفلسطينيين، واستناداً إلى دراسة مسحية شملت 240 عالماً من علماء فلسطين في المدة ما بين القرن العاشر الهجري حتى القرن الرابع عشر، فقد اعتبره المؤرخ كامل العسلي المركز الأول للتعليم العالي في فلسطين، حيث أشارت الدراسة إلى أن 96 عالماً من هؤلاء تلقّوا العلم في الأزهر، بينما تلقاه 42 في إسطنبول، و24 في دمشق.
وقد بقي الأزهر محطّ أنظار الطامحين في دراسة العلم الشرعي في فلسطين حتى نهاية النصف الأول من القرن الماضي، ولعل من أهم الدوافع التي أبقت على وهج الأزهر في نظر الفلسطينيين في مرحلة الانتداب البريطاني (المرحلة موضوع الدراسة) الدافع الوطني، حيث استفز سقوط فلسطين في أيدي البريطانيين مشاعر الفلسطينيين، الذين أحسّوا مبكراً بالبعدَين الديني والفكري للصراع على فلسطين، وهذا ما تؤكده شهادة الشيخ عبد الحميد السائح، إذ يقول عن تلك المرحلة: "وبعد مجيء الإنجليز، شعر أهل الغيرة في نابلس بالحاجة إلى وجود علماء لتفقيههم في دينهم وتعليمهم واجباتهم الدينية في مقاومة الاحتلال، فتألفت لجنة من العلماء والوجهاء برئاسة أستاذنا الشيخ أحمد البسطامي، لاختيار عدد من الطلاب لإرسالهم في أول بعثة دراسية إلى الأزهر، فكنت ضمن من وقع الاختيار عليهم". وقد أدّت الدوافع الاجتماعية والاقتصادية دوراً في الدفع باتجاه التعليم الديني العالي، فافتتحت العديد من المدارس، وظهرت العديد من المؤسسات الدينية، التي احتاجت إلى موظفين من طلبة الشريعة الإسلامية، مثل المجلس الإسلامي الأعلى.
أمَّا بالنسبة إلى الطلبة الأزهريين، فتشير بعض الدراسات إلى أنَّ أغلب طلبة الأزهر الفلسطينيين في القرن التاسع عشر وفي النصف الأول من القرن العشرين، كانوا من العائلات الفلسطينية المدينية التي بادرت بإرسال أبنائها إلى الأزهر. لكنَّ ذلك لا يعني أنَّ الريف الفلسطيني عزف عن إرسال أبنائه إليه، فهنالك أعداد ملحوظة من الريفيين الذين تخرّجوا من الأزهر، وبعضهم فضَّل البقاء في مصر تاركاً بصماته على الساحتين الدينية والفكرية، كالشيخ عيسى منون.
وتعتبر بلدة سلواد- مسقط رأس الشيخ فتح الله السلوادي- شاهداً جلياً على اهتمام الريف الفلسطيني بالتعليم في الأزهر. فقد امتازت بكثرة أبنائها الدارسين فيه، حتى إنّها اشتهرت منذ القرن التاسع عشر بلقب بلد المشايخ. ويُرجع عمر مشعل إقبال أهل سلواد على دراسة العلم الشرعي في الأزهر إلى عدة أسباب، منها: طبيعة التدين الفطري التي اتسم به سكان القرية؛ والدور الذي أدّاه الأزهريون الأوائل من أهل البلدة من أمثال المشايخ عبد الله سلمان عبد الله، وعبد الفتاح عبد القادر حمد بن زغرة، وخليل إبراهيم عبد القادر عياد، في إقناع بعض الطلبة المتميزين بالدراسة في الأزهر؛ إضافة إلى أن الأزهر في ذلك الوقت يكاد يكون الخيار الوحيد لمن يرغبون في طلب العلم من الشاميين وغيرهم. يتفق الشيخ عكرمة صبري مع هذا التحليل، لكنَّه يضيف عاملاً آخر وهو التنافس العائلي، الذي دفع البعض إلى ارسال أولادهم إلى الأزهر لتدعيم مكانة العائلة الاجتماعية والاقتصادية، وكذلك كون الأزهر المؤسسة التعليمية الوحيدة التي منحت طلابها شهادات جامعية لها سمعتها القوية في العالم الإسلامي. ويبدو أنَّ الانتشار المبكر للتعليم في القرية شجَّع العديد من الطلاب لإكمال تعليمهم في الأزهر، إذ افتتحت أول مدرسة في القرية في إبّان حكم إبراهيم باشا لبلاد الشام، كما أنَّ وقوع القرية بمحاذاة الطريق الواصل بين مدينتي نابلس والقدس، واعتبارها محطة استراحة للمسافرين، قد ساهم في تحفيز أبناء سلواد للذهاب للأزهر.
أمَّا بالنسبة إلى الشيخ فتح الله السلوادي فيعود قرار ذهابه إلى الأزهر إلى الرغبة المبكرة لوالديه بتعليمه، وإلحاح مدرسيه بضرورة إرساله إلى الأزهر، لما رأوا من نباهته وتديُّنه رغم صغر سنه، وخصوصاً قريبه واستاذه الشيخ يوسف السلوادي، ويروي الشيخ فتح الله عن تلك المرحلة، فيقول: "أراد الله أن أذهب إلى مصر بتأثير من المرحوم الشيخ يوسف أبي جار الله السلوادي، ...، رآني مداوماً على الصلاة في صغري، ...، وظل ينصح والدي: "ابعث ابنك إلى الأزهر، قابليته للعلم واضحة، ...، ووالدي يستغرب هذا الأمر، لكنَّه نشط له، وقال لعل ابنك يصبح عالماً مثل مشايخ سلواد، ...، رفضت وحاولت التهرب عن طريق الذهاب إلى حيفا لأجد أي عمل أقوم به، ويبعدني عن الحرج، ...، ولكن شاء الله أن تتغلب فكرتهم بعد محاولتي الهرب، إذ أنزلت من السيارة الذاهبة إلى حيفا، ...، وكنت أكره الشيخ يوسف لأنّه هو السبب، لكنّه قال لي: "لا تغضب، تعال أعلمك..." وأجبته، وحفظني بعض المتون- رحمه الله- ووجدت العلم لذيذاً، ووجدت إقبالاً عند الشيخ، رأيته يعلّمني أشياء لم أتعلمها من الشيخ صالح الحوراني، أستاذي في حيفا، وكذلك لم أتعلمها من الشيخ عز الدين رحمه الله، فالشيخ عز الدين كان يحمس الناس على الجهاد، ...، وأما هذا فقد أعطاني شيئاً من التوحيد، وشيئاً من الفقة، وشيئاً من القواعد، وسررت جداً من القواعد خاصة".
لكنَّ نباهة وتدين الشيخ فتح الله لم يكونا الدافع الوحيد وراء ذهابه إلى الأزهر، إذ يمكن أنَّ يكون الحس الوطني واحداً من الأسباب؛ يدعم ذلك رواية الشيخ عبد الحميد السائح المذكورة آنفاً، والدور الذي أدّاه بعض مشايخ قرية سلواد في ثورة سنة 1936 في محيط منطقتهم مثل الشيخ صالح السلوادي، وقد كان الشيخ يوسف السلوادي، مدرّس الشيخ فتح الله السلوادي، ممن حضروا مؤتمر علماء فلسطين الأول سنة 1935، الذي صدرت عنه الفتوى الشهيرة بتحريم بيع الأراضي للصهاينة، وكان من الوطنيين الذين اعتقلوا في إبّان ثورة سنة 1936.
استجاب الشيخ فتح الله السلوادي لرغبة أستاذه ووالده، فذهب إلى مدرسته للحصول على شهادة مدرسية ترفق مع طلب الالتحاق بالأزهر، وهناك جرى بينه وبين مدير المدرسة، ربحي العارف، حديث كان له أثر بالغ في قراره دراسة اللغة العربية، إذ يروي عن تلك الحادثة ما يلي: "... وطلبت منكم شهادة مدرسية، فأردت امتحاني بها، فأمليت علي شيئاً أكتبه على اللوح، ولست أدري مدى رضاك عما كتبته، ثمَّ سألتني: ما الفاعل؟ استغربت أنا السؤال، ومع ذلك أجبت قائلاً: الفاعل الذي يشتغل في الورشة، وهنا الطامة، لقد انفجر بعض الأساتذة ضحكاً، كما أخذ طلاب الصف السابع يتضاحكون في سخرية وتشفٍ معاً. وقال أحدهم (هذا بدو يصير أستاذ!)، سألتني إلى أي الصفوف وصلت؟ قلت: الرابع، ومن كان يعلمك، قلت: الأستاذ بدوي كمال والشيخ عبد الرحمن الريماوي، وماذا كانت درجتك؟ قلت: الأول، وهنا قلت: الأول، الأول، كأنك تستنكر، وقلت على الفور: لعل سجلات المدرسة موجودة...إلخ".
أخذ الشيخ فتح الله السلوادي ما يلزمه من أوراق ثبوتية، ثم اتجه بصحبة والده إلى القنصلية المصرية في القدس لطلب إذن بدخول مصر، وهناك التقيا بشيخ مُعمّم فبادره الوالد بالسؤال: "أسيدنا الشيخ أزهري؟
قال: نعم.
فقال والدي: أمثل ابني هذا يقبل في الأزهر؟
قال: يقبل إن شاء الله. ثم سألني: إلى أي صف وصلت في المدرسة؟
فأجبته: الصف الرابع...
كان الشيخ طويل الجسم مهيب الطلعة.. جاد السمات.. جاداً في كل قولة تبدر منه.
وسألنا من أي بلد أنتم؟ أجبناه من سلواد .. فقال: أنا من حيفا.. واسمي نمر الخطيب".
ورجاه والدي هل تتكرم بشيء من الإشراف على ابني هذا؟
فقال: نحن في الأزهر كلنا أخوة ويرعى بعضنا بعضاً.
الشيخ فتح الله السلوادي في رواق الشام
جرت العادة في بلدة سلواد أن تقام مراسم عائلية خاصة لوداع الطلبة الراغبين في الذهاب إلى الأزهر، وهذا ما حدث بالفعل، حيث أقام والد الشيخ فتح الله السلوادي وليمة للأقارب، وقدمت الهدايا إلى الطالب المسافر، وتم تشييعه في موكب تخللته الأهازيج إلى خارج البلدة.
وصل الشيخ فتح الله السلوادي مصر أوائل سنة 1937، وتقدم لامتحان القبول، حيث امتحنته لجنة من شيخين امتحاناً شفوياً، وكان رئيسها الشيخ عبد المتعال الصعيدي، ثمَّ انضم إلى طلاب رواق الشام، وسكن حجرة من حجره المتعددة. وكانت العادة في حينه أن يبادر الطلبة الجدد بالسلام على شيخ الرواق وتحيته والتعرف عليه، وهذا ما فعله الشيخ فتح الله مع زملائه. يقول عن أيامه الأولى في الأزهر: "كان علينا حقاً أن نذهب إلى منزل شيخ الرواق لنسلم عليه ونحييه ويجري بيننا تعارف.. كما جرت العادة. كان الشيخ يسكن حي شبرا.. وكان دليلنا إلى منزله الشيخ محمد الحمد أو الشيخ قباطية كما تعارف الطلاب تسميته باسم بلده، كنا خمسة من الطلبة الذاهبين للتعارف والتحية، كان الشيخ قباطية يقول: شيخنا ابن عين كارم هو من جماعة كبار العلماء وهو فريد في علم الأصول، كما أنَّه شيخ كلية أصول الدين.. جلسنا قبالة الشيخ، وقد ذكر كل واحد منا اسمه وبلده، وينطلق الشيخ مُسائلاً كل واحد عن المشايخ، الذين تخرجوا من الأزهر من قبل، وكان يسدي إلينا نصائحه، وكلها تدور حول الجد والاستقامة، وأوصانا قبل انصرافنا أن نزوره كل أسبوع وأن نعرض عليه كل مشكلة تعترض".
كانت الأيام الأولى للشيخ فتح الله السلوادي صعبة إلى حدّ كبير، وخصوصاً في التأقلم مع الواقع الاجتماعي والجو الدراسي الجديدَين، لكنَّه ما لبث أن تجاوز الصعاب، فقد يسَّر الله له الشيخ البيروتي، سعد الدين الفتياني، الذي عاونه في تجاوز مشكلاته، لا سيما الأكاديمية منها.
ويبدو أنَّه، كما الكثير من طلبة الأزهر في ذلك الوقت، بقي يعاني من قلة مدخوله، فقد روى لتلاميذه قصصاً كثيرة عن حاجته إلى المال طوال سني إقامته في مصر، وخصوصاً في إبّان الحرب العالمية الثانية، وكيف ظل يعتمد على وقفية الأزهر، إضافة إلى دينارين كان يرسلهما والده كل شهر.
نظام التدريس في الأزهر
يتطرق الشيخ فتح الله السلوادي في مخطوطته إلى أقسام الأزهر الشريف وكلياته في ذلك الوقت، والشهادات التي كان يمنحها، ويتناول بتفصيلٍ يدل على ما كان يكنَّه من احترام وتقدير لعلمائه ومدرسيه، ما اتّبعه أساتذة الأزهر من وسائل في التدريس. وبحسب الشيخ فتح الله السلوادي، فقد اعتمد نظام التعليم في القسم العام أو الأزهر القديم في تلك المرحلة على نظام الحلقات، بعيداً عن التقيد بسنين منتظمة، حيث كان الشيخ يجلس "على كرسي يوضع بجانب عمود من عمد الأزهر ووجهه على القبلة.. ويلتف الطلاب حول الشيخ جالسين على حصر مفروش على أرض الأزهر الشريف، والأزهر متسع .. والشيوخ كثيرون.. والحلقات متعددة". كما سمح بحرية اختيار الطلاب لشيوخهم، وكان يتدخل في هذا الاختيار قدرة الطالب على "هضم ما يختار، ومدى استيعابه لما يدور بين الشيخ وطلابه". ويروي الشيخ فتح الله السلوادي أن الطلبة القدامى اعتادوا مساعدة الطلبة الجدد، وهذا ما اشتهر به الشيخ إبراهيم القطان، فقد كان في الدفعة التي سبقت الشيخ فتح الله السلوادي، وقد قامت صداقة بين الاثنين، ذكرها الشيخ فتح الله السلوادي في مخطوطته.
يشير الشيخ فتح الله السلوادي إلى أن نظام التعليم في الأزهر في ذلك الوقت، كان يفرق بين الطلبة المصريين ونظرائهم من خارج مصر، فكان الطالب المصري يدرس "منهاجاً معيناً في المعارف الدينية على اختلافها، والعربية نحواً وصرفاً وبلاغة، وتاريخاً وفلسفة، وعليه بعد ذلك أن يثبت أنَّه أمضى اثنتي عشرة سنة في الأزهر أو في ما يشابهه من معاهد.. وحامل هذه الشهادة يمكنه أن يكون موظفاً في الأزهر الشريف...، والعالمية الأخرى هي عالمية الغرباء ومنهاجها أقل كثيراً من منهاج العالمية المصرية، ولا يشترط فيها مدة معينة، فقد ينالها بعضهم في سنة وقد ينالها بعض آخر في أكثر من السنين، ولا يسوغ له أن يكون موظفاً في الأزهر أو غيره في مصر". وكان يشترط فيمن يريد التقدم لنيل شهادة أزهرية أهلية أو عالمية أن يدرس مساقاً يدعى التعيين، وهو"باب معين من أبواب علم ما، يعين للطالب المتقدم للامتحان ليمتحن فيه أمام لجنة من العلماء الكبار.. امتحاناً شفهياً بالغ الدقة". وقد درسه الشيخ فتح الله السلوادي على يد الشيخ أحمد القيم النابلسي، أستاذ التجويد وعلم القراءات في الأزهر.
مشايخه في الأزهر
يفرد الشيخ فتح الله السلوادي جانباً من مخطوطته للحديث عن سبعةٍ من مشايخه في مصر، ولا يكتفي بتبيان ما درسه على أيديهم، بل ينتقل لسرد بعضٍ مما عاشه من مواقفهم ذات الأثر في الواقعين الديني والثقافي، ويتطرق إلى أساليبهم في التدريس، وما حازوه من مكانة علمية مرموقة، ويشرح جانباً من علاقته الشخصية بهم، وأجد من المفيد هنا تسليط الضوء على ذكرياته عن بعضهم:
الشيخ عيسى منّون: من أوائل من تعرف عليهم من علماء الأزهر، كان حينها شيخاً لرواق الشام، وأحد جماعة كبار العلماء، وقد قامت بينهما علاقة وطيدة، يتضح ذلك من كثرة تردده عليه في بيته في حي شبرا، وما سجله من حوارات علمية جرت بينهما، كان فيها الشيخ عيسى منّون ناصحاً وموجهاً وممتحناً، وبحسب ما روى الشيخ فتح الله السلوادي، فقد كان الشيخ عيسى من أكثر من أثّر في نفسه دفعاً نحو الاجتهاد وتأثراً بالعلم، وقد ألحّ عليه بالبقاء في مصر والتدريس في الأزهر بعد التخرج، ومما ذكر من نصائحه له، تحذيره من العودة لمسقط رأسه سلواد؛ "لأنّ القرى مقابر العلماء"، ونقل عنه كذلك كثرة ترحُّمه على الشيخين عبد الفتاح السلوادي، الذي اعتبره أقوى من علَّمه العربية والمنطق في المسجد الأقصى، وأمين العوري الذي وصفه بأنَّه أقوى زميل وصديق.
الإمام الأكبر الشيخ عبد الحليم محمود: تعرف الشيخ فتح الله السلوادي عليه في سنة 1941، وقد استفزّ عقله منطق الشيخ عبد الحليم محمود الفلسفي وفكره الحرّ المجبول بلون من الإنسانية، يختلف عمّا ألفه طلاب الأزهر من مشايخهم، واسترعى انتباهه تركيزه على الدعوة إلى استنهاض الشرق والاعتزاز بحضارته ومآثره. وعلى الرغم من إشارته إلى حدّة في طبعه أحياناً، إلا إنَّه أعجب بأسلوبه في التدريس، وطريقته في جلب انتباه الطلاب، وأثار استغرابه هيأته وهندامه المعاصر، إذ كان ذلك في عُرف الأزهر جديداً. درَّسه مساقات في الفلسفة اليونانية والعربية والفكر الحديث مدة ثلاثة أعوام، وكان يلحّ عليه لإرساله إلى الدراسة في فرنسا. وبحسب الشيخ فتح الله، فإنَّ من محاسن الإمام الأكبر أنَّه كان "يرضى عن كتابة كل طالب، ولو تعارضت في نتائجها، ولا يقر الإجابة الخاطئة، لكنَّه يجعل اعتباراً لوجهات النظر، كما كان يهتم بسلامة الأداء وتسلسل الأفكار".
ويروي الشيخ فتح الله عن لقائه الأول بالشيخ عبد الحليم محمود: " في سنة 1941 أو في أخرياتها، من حيث الدوام الدراسي دَلَفَ إلى حجرة السنة الثانية من كلية اللغة العربية رجل يلبس الثياب الإفرنجية، ووقف بجانب المنصة التي يجلس في العادة على كرسي عليها المدرسون والمحاضرون.. أخذ الطلاب بعمائمهم البيض ينظرون إليه في حيرة واستفسار، وكأنَّهم يقولون من هذا الرجل؟ ... ومضت فترة من الوقت والطلاب صامتون ينظرون بحيرة.. ثمَّ أخذ الرجل يتحرك بجانب المنصة كمن يريد أن يقول أو يفعل شيئاً، ثمَّ قال هذا الرجل بعد صمت يا شباب! أنا ضيف عندكم.. واعتلى الرجل المنصة، وأدركنا أنَّه أستاذ لنا، ثمَّ بادرنا بهذا السؤال، هل نحن جميعاً أيقاظ أم نائمون... وتفاوتت الأجوبة المتعددة.. وكان يبطل كل إجابة بقوله: هذا أيضاً يكون في الأحلام.. ووقف الطلاب أو قعدوا في حيرة وارتباك، ورفعت يدي مستأذناً لأجيب فسمح لي، وقلت حينما نكون في حالة حلمية ونرى ما نرى في المنام تجيء صحوة اليقظة فتدلنا على أننا كنا حالمين.. فأصغى الرجل ليقول: ليس جواباً ولكنَّه أقرب كلام إلى الإجابة".
الشيخ عبد المتعال الصعيدي: قابله الشيخ فتح الله أول مرة عندما كان يَدرُس في القسم العام، كان فكر الشيخ عبد المتعال الصعيدي ومواقفه العلمية محطّ جدل داخل الأزهر، وكان بعض الطلبة يترددون في الالتحاق بحلقته، لكن الشيخ فتح الله السلوادي حسم أمره وقرر الانضمام إلى حلقته، واضعاً بالحسبان "تركه إن رأى منه ما يمس الدين"، وكانت دروسه في شرح ألفية ابن مالك. ويبدو أن الشيخ فتح الله السلوادي قد أعجب بما سمع، إذ يقول واصفاً شيخه الصعيدي "كان الشيخ دقيقاً في شرحه، عميقاً في استكناه كل معنى تحتمله النصوص، وإذا أضيف إلى الشرح ما أضيف من حواشي الخضري كان الدرس مرحلة متقدمة في علم اللغة، يضاف إلى ذلك طريقة التحقيق والمحاكمة التي كان يتوّخاها الشيخ في العلاقة بين المتن والشرح، ثمَّ ضرورة الحرص على معرفة معنى الكلمة ومن أي باب من الأبواب الصرفية هي".
الإمام الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي: تناول الشيخ فتح الله السلوادي في حلقته عن الشيخ المراغي بعضاً من مواقفه، وذكر بإجلال، موقفه الشهير من الحرب العالمية الثانية، وعلّق على حسن إدارته لمشيخة الأزهر، وأشاد بطريقته في التعامل مع مطالب الطلبة وحنوّه عليهم، وأتى بأمثلة على ذلك، كما شرح بعضاً من إسهاماته العلمية.
الإمام محمد حبيب الله الشنقيطي: داوم الشيخ فتح الله السلوادي على حضور دروس الشيخ الشنقيطي في مسجد سيدنا الحسين، وتحديداً في شهر رمضان من كل عام، وقد روى عن تلك الأيام فقال: "وجلست في حلقة درسه، وكان الحاضرون كثيرين جداً، ومما أثار انتباهي ودهشتي أنَّه يكثر في الحاضرين على هذا الشيخ الجليل كبار الأساتيذ والعلماء في الأزهر والجامعة المصرية – كما كانت تسمى ذلك الحين- ودار العلوم وكبار العلماء في المجمع اللغوي وسائر المعاهد..
كان الشيخ على كرسيّه كما شهدته عيناي، ذا لباس بسيط بعمامة يسيرة لا تأنق فيها، ولا تعجل، تذكر بعمائم السلف.. كان يقرأ الحديث الشريف، يبدأ بالّسند، ثمَّ يعطي شرحاً موجزاً عن كل واحد، ثمَّ يذكر رتبته من حيث العدالة والضبط، ويأخذ في توضيح المتن.. ثمَّ يشرح الكلمات اللغوية، وتصرفاتها وشتى استعمالاتها، ويورد بعضاً من الشواهد لها شعراً ونثراً، حتى يخيل لمن يسمعون أنهم عند أبي علي القالي في كتابه الأمالي، أو عند ابن قتيبة في عيون الأخبار..
وبعد ذلك يشرح الحديث والهدف الإرشادي فيه، حتى يخيل للسامعين أنهم في عصر النبوة أو التابعين، وكان إذا تحدث عن عيب اجتماعي أو نقيصة في قوانين الدول الإسلامية يتحدث بصراحة ولا يهتم بما عساه يكون".
الإمام محمود شلتوت: واظب الشيخ فتح الله السلوادي على الاستماع إلى محاضرات الإمام شلتوت، لا سيما توجيهاته ومناقشاته المتقدمين برسائل الدكتوراه، وقد أعجب بسير الإمام شلتوت على درب العلماء والمفكرين الكبار أمثال جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، وبما عرفه من اهتمامه بأحوال المسلمين، وبما أحدثه من نقلة نوعية داخل الأزهر، فقد كان "يكثر من مقاعد البعثات في الأزهر الشريف، وقد ساد بذلك على درب أسلافه الصالحين من إرسال دعاة إسلاميين إلى شتى البلاد الإسلامية".
الشيخ أحمد القيم النابلسي: أخذ الشيخ فتح الله السلوادي التجويد على يد الشيخ النابلسي، وكان أحد تلاميذه في سنة 1939 في مادة التعيين، عندما أراد التقدم لنيل الشهادة العالمية، ويبدو أن جوّاً من الودّ قد جمع الطالب وأستاذه، وخصوصاً بعد أن روى له الشيخ النابلسي ذكرياته في قرية سلواد، وأنَّه يرغب في العيش فيها بعد إحالته على التقاعد. ويذكر الشيخ فتح الله السلوادي أنَّه نقل هذه الرغبة لأهل بلده، فرحبوا بالفكرة، لكنَّ الشيخ النابلسي مرض ومات في القاهرة قبل تحقيق رغبته رحمه الله.
الحراك الثقافي والفكري في مصر كما عايشه الشيخ فتح الله السلوادي
تعطي تجربة الشيخ فتح الله في مصر، كما رواها في مخطوطته، معلومات تفصيلية عن المراكز الثقافية والفكرية التي اعتاد ارتيادها، حيث صيغت داخلها الملامح الأساسية لثقافة النخبة الأزهرية في ذلك الحين، وهي توضح مدى انعكاس المشهد الثقافي المصري والقضايا الفكرية، التي شغلت بال المفكريين المصريين في حينه على ثقافته وقناعاته الفكرية، حيث تبنّى طوال عمره ثقافة ذات مرجعية قومية اسلامية.
يعتبر رواق الشام في الأزهر من أكثر الأمكنة التي قضى فيها الشيخ فتح الله السلوادي وقته في طلب العلم، فقد كان الرواق بحجره المتعددة مركز تجمع لطلاب الشام في الأزهر، يزوره العلماء والأدباء والشعراء، وتجري داخل حجره معظم النقاشات الفكرية.
تأثر الشيخ كثيراً بالأجواء الثقافية داخل الأزهر، وتعطي المخطوطة مؤشراً على مدى افتتانه وحبّه لمدرسيه وما منحوه من ثقافة دينية، ظل وفياً لها طوال عمره، وتوضح المخطوطة في أكثر من محطة جملة الأفكار التي كان علماء الأزهر يبثونها بين الطلاب، مثل دور العقيدة الإسلامية في نهضة الأمة، وفكرة الوحدة الإسلامية وضرورة نهضة الشرق وأهمية اللغة العربية في النهضة، والصحوة الإسلامية، والمؤامرات ضد الإسلام، ودور طلاب الأزهر في سد حاجات المسلمين من الثقافة الإسلامية، والتقريب بين المذاهب...إلخ.
التزم الشيخ فتح الله السلوادي بحضور المحاضرات والندوات، التي كانت تعقدها العديد من الجمعيات ذات الصبغة الفكرية والأدبية كجمعية الأخوة الإسلامية في القاهرة، التي تردد عليها كثيراً، واستمتع بالمحاضرات والمناظرات التي كانت تقيمها، والتقى داخلها بعدد من مشاهير الفكر والأدب. وتردد أيضاً على دار الأخوان المسلمين في الحلمية، واستمع لدروس مرشد الأخوان المسلمين، الإمام حسن البنا، وكذا جمعية الشبان المسلمين ومسجد سيدنا الحسين ومسجد العتبة.
ولعل في بعض ما ذكره عن المناظرات التي اعتاد حضورها، ما ينبئ عن طبيعة الجدل الفكري الذي شهدته الساحة الثقافية في مصر في ذلك الوقت، ويشير إلى أسماء عدد من المفكرين والكتّاب ممن شكّلوا المشهد الثقافي في حينه. ومن ذكرياته عن بعض تلك المناظرات، مناظرة حضرها في الجامعة المصرية، حيث يقول: "ولا أزال أذكر مناظرة جرت في مدرج الجامعة المصرية في القاهرة، وقد حضرها كثير من المثقفين المتطلعين إلى الغد، وفي مقدمتهم المرشد العام للأخوان المسلمين، قال عبد القادر حمزة، صاحب جريدة البلاغ: نحن شعب مصر ننتمي إلى الفراعين أعرق وأمجد أمة في فجر التاريخ ولا تزال آثارهم تنطق بالمجد...
كان للمرحوم عبد القادر حمزة مؤيدون، كان الدكتور طه حسين والشيخ أمين الخولي وسلامة موسى في مقدمتهم.
وانبرى المرحوم عبد الوهاب عزام ليدلي بدلوه في هذا الحشد الكبير، فقال: يذكر السيد المناظر جملة من المآثر القديمة وكأنما يريد أن يجعلها في مقابلة مآثر الحضارة العربية الإسلامية. ومع ذلك فلنسأل أنفسنا مخلصين ولنسأل التاريخ متفحصين موازنين. أيهما أنفع وأبقى وأرجح في موازين التاريخ.. القاهرة الفاطمية الإسلامية أم الأهرامات؟...إلخ.
الشيخ فتح الله السلوادي ونشاطه الأدبي والفكري في إبّان الدراسة في الأزهر
بدأ الشيخ فتح الله السلوادي في الكتابة نثراً وشعراً وهو في الأزهر. ويبدو أنَّه قد أخذ الإحساس المرهف، والتلقائية في قول الشعر عن والديه. أمَّا عن دوافعه للكتابة فيقول: "حببني بالكتابة قضية فلسطين والعمل لفلسطين، فكانت كتاباتي أولا عن بلادنا فلسطين والحماسة للجهاد، وحقاً البعد عن الأهل كان يكوّن عنصراً من الشوق، وحب البلاد أيضاً، إذ كنت أحب بلادي كثيراً. لم أذهب في مصر إلى ملهى أو شيء يتسلى به الناس، كنت منفرداً دائماً وعاكفاً على الكتب. فرجتي وسلوتي أن أتذكر البلاد، وهذه المعاني كنت أكتبها في الصحف".
ويبدو أنَّ وجوده في مصر بأجوائها الثقافية المتميزة، وكثرة أدبائها وشعرائها، قد ساهم بشكل كبير في اكتشاف موهبته الأدبية وقدراته الشعرية، إذ ما لبث أن نشر مقالاته وأشعاره في مختلف الصحف المصرية، مثل السياسة الأسبوعية والأمصار والأهرام والمصري.
نشر الشيخ فتح الله السلوادي قصيدته الأولى في مصر سنة 1937، وكان ذلك ثمرة لتشجيع تلقّاه في لقائه الأول مع طالب في السنة الأولى في كلية اللغة العربية يدعى أحمد الشرباصي، وقتها بادره الشرباصي بالقول:" أنتم الأخوة الشوام أهل أدب وتفنن في أنواع الأدب.
قلت: ومصر هي المعلم وهي المورد الأصيل.
قال: هل حاول أحد منكم نظم الشعر؟
فقال زميلي: أخونا الشيخ له بعض محاولات.. وهو كأي بادئ ينظر له إذا جد مستقبل.
فألحّ الشرباصي: قائلاً: هات أسمعنا.
وترددت في الاستجابة.. لقد كانت في جيب جبتي قطعة من الشعر قلتها متشوقاً لأهلي، لكن سخر منها بعضهم، واعتبرها آخرون كلاماً فارغاً وأخرجتها من جيبي، وقرأتها، وأنا أتوقع أن يهزأ بها من يستمع اليها.
وفوجئت بقول الشرباصي: هذا هو الشعر.. قلت ألست تبالغ يا صديقي؟ قال: لا أبالغ .. أتحب أن تنشرها في مجلة؟ وقلت نعم، إذا كانت صالحة للنشر. وبعد أسبوع رأيتها منشورة في مجلة تصدرها كلية الحقوق".
لم يحتفظ الشيخ فتح الله السلوادي بقصيدته الأولى، لكن بقي في ذاكرته ثلاثة أبيات منها:
يا خليليَّ .. والبعاد مؤسّي زاد وجدي وزاد حزني وبؤسي
أين أمي؟ لم أحتمل بعد أمي صوتها لم يزل يشيع بحسي
لم أعد أستطيع بعداً عن الأم فأمي إسعاد نفسي وأنسي
كان الشيخ الشرباصي مصدر عون للشيخ فتح الله، وهو من عرَّفه على الشيخ علي الغاياتي، الذي رحّب بقصائده، ونشر له بعضها على صفحات جريدة منبر الشرق منذ سنة 1841، كما نشر في مجلة الأنصار القاهرية والسياسة الأسبوعية، وفي جريدة الدفاع الفلسطينية سنة 1942.
أمَّا الشيخ إبراهيم القطان، فقد كان لنصائحه أثر واضح في مسيرة الشيخ فتح الله الشعرية، حيث داوم، وهما في الأزهر، على إسداء النصح له حول ما يشتري أو يقرأ من دواوين الشعر. لم يكتف الشيخ فتح الله السلوادي بنظم الشعر، لكنَّه احتكّ بالشعراء، وقدَّم معارفه في خدمتهم، وهذا ما يتضح من سيرته مع الشاعر المصري أحمد رامي، فقد تعرّف عليه عن طريق الشاعر حسن البحيري، الذي طلب منه عرض ديوانه (ابتسام الضحى) على الشاعر أحمد رامي ليضع عليه ملاحظاته قبل الانتهاء من طباعته، وكان أحمد رامي في ذلك الوقت مديراً لدار الكتب المصرية، وبحسب الشيخ فتح الله، فقد كان الشاعر أحمد رامي "ذكياً رقيق الإحساس، ولكنَّه قد يخطئ في العربية، فقد كان يتساءل عند نقاط تساؤلاً ينبئ عن عدم تمكنه من النحو على الأقل وكنت أبين له أسباب ذلك".
وعن العلاقة التي جمعته بالشاعر أحمد رامي، يقول: "توثقت العلاقة بيني وبينه، وكان يقول لي: أنت في العربية إمام ونحن نتعلم منك، فأشكره وأشعر بشيء من الحرج.. وصار رامي يطلعني على ما ينشئ هو من شعر، وفي الحق كان مطبوعاً أصيلاً يقول السهل الممتنع".
النشاطان السياسي والنقابي للطلاب الفلسطينيين داخل الأزهر كما عايشه الشيخ فتح الله السلوادي
تظهر بعض الحوادث التي ذكرها الشيخ فتح الله السلوادي في مخطوطته إلى أن الطلاب الفلسطينيين مارسوا نشاطاً طلابياً ذا صبغة نقابية وسياسية، وسأركز على حادثتين أوردتهما المخطوطة، تشيران بوضوح إلى ذلك:
أولاً: إقالة الإمام محمد مصطفى المراغي
أدت إقالة القصر الملكي لشيخ الأزهر الإمام محمد مصطفى المراغي وتعيين الإمام محمد أحمد الظواهري مكانه -وذلك على خلفية نزاع نشب بين الطرفين-، إلى تحرك طلاب الأزهر الذين ثاروا وأضربوا وطالبوا بإرجاع الإمام المراغي، وجرت اشتباكات بين الطلاب والشرطة، "وكان للطلاب الشاميين دور كبير في هذه الثورة ولا سيما الفلسطينيين، لقد عمد هؤلاء الطلبة إلى تقليع البلاط عن سطح رواقهم ثم يكسرونه قطع صغيرة، وأخذوا يقذفون به رجال الشرطة مما أسفر عن عديد الإصابات، وغضب وزير الداخلية وأصدر الأمر باقتحام الرواق وأصاب الرصاص طالباً فلقي مصرعه وضجت مصر كلها"، واعتقل كذلك عدد كبير من الطلبة من بينهم الشيخ الفلسطيني محمد نمر الخطيب.
ثانياً: التضامن مع الثورة الفلسطينية الكبرى وثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق
عندما اندلعت الثورة الفلسطينية الكبرى في فلسطين (1936-1939)، نشط العديد من الطلاب الفلسطينيين والشاميين في العمل لمصلحة القضية الفلسطينية عبر عقد الاجتماعات وإصدار البيانات وجمع التبرعات، كما وقف العديد من الطلبة مع ثورة رشيد عالي الكيلاني في العراق في بداية أربعينيات القرن الماضي، وساندوها عبر نشر الوعي بين المواطنين المصريين بحقيقتها، والدعوة إلى مؤازرتها، وقد تصدى لهذه المهمة عدة طلاب من الأزهر، تزعمهم الشيخ السوري مصطفى السباعي، وكان من بينهم الشيخان إبراهيم القطان ومشهور الضامن.
أثارت جملة الفعاليات التي قام بها الطلبة تضامناً مع القضية الفلسطينية وثورة رشيد عالي الكيلاني السلطات المصرية، التي بادرت باعتقال ثمانية من الطلاب الشاميين، وعزمت على ترحيلهم. تدخل الشيخ محمد مصطفى المراغي لمصلحة الطلبة، ودعا إلى منحهم الفرصة لإكمال امتحاناتهم وتسليمهم شهادات التخرج، فوافقت السلطات المصرية، وحدث خلاف على مكان عقد الامتحان، هل يكون داخل السجن أم في الأزهر، فتم الاتفاق على نقل الطلبة في سيارات كبيرة مغطاة الظهر والجوانب، تحت حراسة أمنية مشددة، وبحسب رواية الشيخ فتح الله فقد انتهت مدة الامتحانات بنجاحهم، وسافروا أو سُفّروا كلّ إلى بلده".
الشيخ فتح الله السلوادي والأحزاب السياسية المصرية
شهدت مصر في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الماضي حراكاً فكرياً وسياسياً نشطاً، وكانت أسئلة النهضة ومتطلبات الاستقلال الوطني مهيمنة على السجال الدائر بين التيارات الفكرية والسياسية على اختلاف مشاربها سواءً الليبرالية أو القومية أو الإسلامية وغيرها.
وكانت الجامعات والمعاهد المصرية من أهم ساحات التجاذب السياسي وميادين التغيير، وكان طلابها وقوداً للتحركات السياسية والنشاطات الحزبية، سواءً على صعيد التظاهر السلمي ضد بريطانيا وتوجهات القصر أو المشاركة في المقاومة المسلحة ضد القواعد البريطانية. وكان الأزهر حاضراً بقوة في الحياة الفكرية والسياسية المصرية، سواءً عبر مواقفِ علمائه من الأحداث، أو في نشاطات طلابه، ورغم وضع البعض للأزهر في خانة الملك، بناءً على مواقف بعض العلماء الأزهريين، فإن الكثير من الشواهد تشير إلى أن الأزهر كان حاضنة للعديد من قادة الفكر والسياسة المتنوّرين والوطنيين، مثل رفاعة طهطاوي ومحمد عبدو ومصطفى المنفلوطي وطه حسين وسعد زغلول وغيرهم.
أمَّا فيما يتعلق بما ذكره الشيخ فتح الله السلوادي في مخطوطته حول الأحزاب السياسية المصرية في ذلك الوقت، وتقييمه لها، فقد استكفى بذكر الحزب الوطني وجماعة الأخوان المسلمين. ولعل عزوفه عن الحديث في الشأن السياسيي المصري عائد إلى فهمه لطبيعة المهمة التي جاء من أجلها إلى مصر، والتزامه المبكر بالابتعاد عن الانخراط العملي في الشأن السياسي الذي واكبه طوال عمره، فالشيخ فتح الله السلوادي عاش حياته في مصر منكبّاً على طلب العلم، ومهتماً بإنهاء مهمته والعودة في اسرع ما يمكن إلى بلدته، حيث والديه.
الحزب الوطني: يتناول الشيخ فتح الله السلوادي الحزب الوطني- بإيجابية واقتضاب- في معرض حديثه عن علاقته بالشيخ علي الغاياتي، ورغم عدم ذكره لمسيرة الحزب أو أفكاره أو نشاطاته إلا إنَّه أشاد بمواقفه الوطنية، ومدح قادته، فترحَّم على مؤسسه مصطفى كامل باشا، ووصف زعيمه محمد فريد بالمجاهد العامل، وأشار إلى الشيخ الغاياتي بـ"الأديب الشاعر والزعيم الوطني".
حركة الأخوان المسلمون: أفرد الشيخ فتح الله السلوادي مساحة كبيرة للحديث عن حركة الأخوان المسلمين، ولعل ذلك عائد إلى الحضور القوي للحركة في الشارع المصري عموماً، وخطابها الديني الذي يستقطب الكثيرين بسهولة، وخصوصاً طلبة الأزهر، إضافة إلى انتماء عدد كبير من أصدقائه ومعارفه من الطلاب والمدرسين للأخوان فكراً وتنظيماً. ويبدو أنَّ علاقة الشيخ بحركة الإخوان المسلمين اتّسمت بالودّ، يظهر ذلك جلياً في ثنايا حديثه عن فكرهم، وعن القيادات الأخوانية التي عاصرها واستمع إليها وخبِر أسلوبها وأهدافها، وقد أشار الشيخ في أكثر من موضع إلى مشاركته في بعض النشاطات الأخوانية الميدانية، وإلى تردّده المستمر على دار الأخوان في الحلمية، لكنَّه لم يقل إذا ما رافق هذه المشاركة التزام تنظيمي أم لا. كما تناول في حلقة كاملة المرشد العام للأخوان المسلمين الإمام حسن البنا، ويبدو أنَّه كان معجباً بشخصيته، إذ بدأها بالثناء عليه، وتعداد مناقبه، ومدح خطابه، ثمَّ شرع بشرح لقائه الأول به، فقال: "وفي أول مرة أذهب بها إلى دار الأخوان في العتبة الخضراء، وكنت مع جماعة من الأخوان الأزهريين في رواق الشام.
كان يخطب ويعِظ، وقد لمح في الحاضرين وجوهاً جديدة، وفي نهاية درسه تقدمنا نحوه للسلام عليه، كان باشّاً مرحباً مسروراً، كان بدأ حديثه أهلاً بالأخ.. ويذكر أحدنا اسمه وبلده ومكان تعلمه في مصر، ويدعو لكل واحدٍ متمنياً التوفيق والنجاح". ولم يكتف الشيخ بما أورده في حلقته عن المرشد، فقد تناوله في أكثر من مكان في مخطوطته مادحاً سلوكه ومثنياً على فكره، كما تحدث بإيجابية واستفاضة عن قياداتٍ أخوانية مصرية، كالشيخ محمد الغزالي؛ وأخرى سورية كالشيخ مصطفى السباعي؛ وأخرى أردنية كالشيخ إبراهيم القطان؛ وأخرى فلسطينية كالشيخ محمد نمر الخطيب.
[يعاد نشره ضمن اتفاقية شراكة وتعاون بين "جدلية" ومجلة "حوليا القدس"]